: تقييم أوروبي لإنفاق دول غرب إفريقيا على قطاعي الأمن والدفاع

تشهد منطقة غرب إفريقيا والساحل العديد من التحديات الأمنية، سواء تلك المرتبطة بالصراعات المُسلحة والعنف، أو التهديدات الإرهابية العابرة للحدود، أو أزمات الأمن الغذائي، وكذلك ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، فضلًا عن تنامي ظاهرة النزوح القسري. وفي مواجهة تلك التحديات يعمل الاتحاد الأوروبي على تقديم المساعدات الإنمائية للعديد من دول المنطقة، والتي بلغت في عام ٢٠١٧ نحو 2,5 مليار يورو، لدعم السلام ونشر الأمن والتنمية المستدامة بالقارة.

وقد تضمنت المساعدات الأوروبية إصلاح قطاع الأمن في الدول الإفريقية، عبر دعمه بالتدريب والمعدات، وصياغة نظم للمساءلة الداخلية. كما خصص الاتحاد الأوروبي مائة مليون يورو لدعم قوة الساحل الإفريقي (قوات من خمس دول، هي: موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو) التي تكافح الإرهاب في منطقة الساحل. وبلغت مساعداته لتحقيق الاستقرار في المنطقة نحو 400 مليون يورو.

وبموازاة ذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي عددًا من المهام المتعلقة بالأمن والدفاع في دول غرب إفريقيا، منها برامج خاصة ببناء القدرات، والمساعدات الفنية والتدريب، وتوفير المعدات لقوات الأمن؛ بغرض مكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية.

ومن جانبها، نشرت فرنسا أربعة آلاف جندي ضمن عملية “برخان” التي انطلقت في عام 2014 في منطقة الساحل الإفريقي، وتصل تكلفتها السنوية إلى نحو 600 مليون يورو. كما تبنى الصندوق الائتماني الأوروبي من أجل إفريقيا عددًا من المشروعات في غرب القارة بتكلفة مليار يورو لدعم الشباب، وتنمية القطاع الخاص، وبرامج الحماية الاجتماعية.

وحول تقييم فاعلية التمويل الأوروبي المتزايد على قطاعي الأمن والدفاع في غرب إفريقيا، للحد من الصراعات وتقليل مصادر العنف، صدر عن “معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية” في مارس من العام الجاري ورقة بحثية بعنوان “هل يمكن أن يصبح السلام ممكنًا؟ الدروس المستفادة من مراجعات نفقات قطاع الأمن في غرب إفريقيا” لـ”بول بيسكا” الباحث المتخصص في دراسات الأمن والتنمية.

سياقات دعم قطاع الأمن

يشير “بيسكا” في ورقته البحثية إلى أن جيوش دول غرب إفريقيا عانت من الإنفاق المتدني، وسوء التدريب؛ لاتجاه بعض حكوماتها للاعتماد على هياكل عسكرية موازية لا يمكن مساءلتها، الأمر الذي تسبب في ضعف القدرات الأمنية لتلك الدول على الحد من الصراعات. لكن بسبب تزايد التحديات الأمنية بالمنطقة خلال العقد الأخير، شهدت جيوشها تحولًا نوعيًّا، من حيث الكفاءة القتالية، والقدرات التدريبية، وذلك عبر مساعدات الاتحاد الأوروبي، والتعاون الإقليمي.

واستنادًا إلى تقديرات معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، ذكر الباحث أن حجم الإنفاق العسكري في القارة زاد بنسبة 50% في الفترة ما بين عامي 2007 و2017. ويدلل على ذلك بارتفاع عدد الجنود في دولة مالي من ثمانية آلاف جندي إلى ثمانية عشر ألف جندي ما بين عامي 2012 و2016. وبالمثل، زاد عدد أفراد القوات المسلحة النيجيرية بنسبة 25% خلال عامي 2014 و2015. كما زادت نسبة الإنفاق على الأمن والدفاع بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الضعف في السنوات الخمس الماضية في كل من بوركينافاسو ومالي والنيجر.

ويضيف “”بيسكا” أن دول الساحل الإفريقي الخمس خصصت ما يقرب من 10٪ إلى 15% من الإنفاق الحكومي لقواتها المُسلحة. ويشير إلى أن الإنفاق العسكري في نيجيريا بلغ نحو ملياري دولار عام 2018. وذكر أن تلك المخصصات لم تشمل الأجهزة الشرطية بالدولة، والتي يبلغ قوامها نحو400 ألف فرد.

الإنفاق العسكري بدول الساحل الإفريقي خلال الفترة من عام ٢٠١٢ إلى عام ٢٠١٧



شروط فاعلية الإنفاق الأمني

على الرغم من زيادة إنفاق دول الساحل الإفريقي على قطاعي الأمن والدفاع، الذي يُعد خطوة محورية نحو مزيد من السلام والاستقرار في أي دولة؛ إلا أن “بيسكا” لا يرى ذلك كافيًا، لكون فاعلية الإنفاق ترتبط بجملةٍ من العوامل التي ينبغي توافرها، ومنها: الحاجة إلى ضمان فاعلية النفقات الموجّهة لقطاع الأمن، والقدرة على قياس الفارق الذي قد يُحدثه الإنفاق الأمني على أوضاع هذه الدول، بالإضافة إلى ما إذا كانت الاقتصادات الإفريقية ستتعرض لمخاطر نتيجة ضخ المزيد من الاستثمارات في قطاع الأمن، دون غيره من القطاعات.

وعليه، فقد دعا تقرير التنمية في العالم لعام 2011 حول النزاعات والأمن والتنمية، إلى حوكمة القطاع العام من أجل تحسين خدمات الأمن والعدالة في الدول الهشة، إذ أكد أن الإنفاق على الأمن والدفاع سيكون مُجديًا شريطة ربط الإنفاق على المُعدات العسكرية والأفراد (المدخلات) بالمهام القتالية والشرطية (المُخرجات)، لقياس تحقق الاستقرار والسلامة العامة (النتائج).

ومن الشروط الأخرى التي دعا إليها التقرير تحديد التهديدات الأمنية، وأولويات الدفاع والسلامة العامة، بما يُسهم في تنسيق وتوزيع المهام بين أجهزة الجيش والشرطة، إضافةً إلى أهمية وضع ميزانيات للإنفاق على الجيش أو الشرطة على أساس استراتيجيات وسياسات ملموسة يتم بموجبها تحديد أولويات الإنفاق.

كيفية تقييم الإنفاق العام على قطاع الأمن


تجارب دولية

ذكر “بيسكا” في ورقته البحثية لتقييم الإنفاق على قطاع الأمن في كلٍّ من ليبيريا ومالي والنيجر خلال عامي ٢٠١٢ و٢٠١٤، أنّ التقييم مشترك بين حكومات تلك الدول والبنك الدولي. ويشير الباحث إلى أن الاتجاه العام والحالة الأمنية في كلٍّ منها أسهم في تحديد كيفية تأثير التهديدات الأمنية في أولويات الإنفاق.

أولًا- الإنفاق على قطاع الأمن في ليبيريا خلال عام ٢٠١٢: ذكر “بيسكا” أن التقييم خَلُصَ إلى أن استقرار الدولة كان مُعرضًا للخطر بفعل النزاعات الداخلية، وارتفاع معدلات البطالة، فضلًا عن تسريح نحو 117 ألفًا من الجنود والمقاتلين، ناهيك عن المخاطر الحدودية لانعدام الأمن في كوت ديفوار، وغينيا، وسيراليون.

وعليه، فقد تبنت ليبيريا استراتيجية أمنية أُسست على احتمالية تصاعد الاضطرابات الداخلية، واتساع حدتها. ومن ثم أصبح دور الشرطة أكثر أهميةً في حفظ الأمن والاستقرار، في حين تراجع دور الجيش نظرًا لأن التهديدات الخارجية كالغزو أو الحرب بالوكالة لم تكن متوقعة.

وفي هذا السياق، قُدرت التكلفة الإجمالية للحفاظ على النظام العام والاستقرار بنحو 712 مليون دولار في الفترة من عام 2012 وحتى العام الجاري. ويأتي الجزء الأكبر من هذه المُخصصات في شكل رواتب وبدلات ومعاشات، فضلًا عن صيانة المُعدات. وتشير الورقة البحثية إلى توقع تقرير مراجعة وتقييم الإنفاق العام بليبيريا وجود فجوة في تمويل القطاع الأمني تبلغ نحو 86 مليون دولار في الفترة من عام 2012 إلى عام 2018. ولذا فقد أوصى بضرورة أن تنضم وزارة المالية إلى مجلس الأمن القومي لاستكشاف طرق لإعادة تخصيص الأموال أو تحديد تدابير خفض التكاليف.

ويُضيف “بيسكا” أن إدارة الموارد البشرية لقوات الأمن الداخلي مثلت تحديًا رئيسيًّا في عملية توفير الأمن، حيث ضعف دور الشرطة في القيادة والسيطرة وتوفير الأمن، إذ بلغ عددها نحو 4200 فرد عام 2012، الأمر الذي كان يستلزم مضاعفة حجمها للمساهمة في إدارة النظام العام.

ثانيًا- الإنفاق على قطاع الأمن في مالي خلال عام ٢٠١٣: يشير الباحث إلى أنه في أعقاب الانقلاب العسكري في عام 2012، بات التعامل مع تهديدات الأمن أكثر إلحاحًا، حيث عمل الجيش على التعافي واستعادة تمركزه وقوته بعد مرحلة من الصراع مع متمردي الطوارق، والعمل على استعادة الأراضي المفقودة في الشمال. ولهذه التهديدات، فقد عملت الدولة على توجيه مزيدٍ من الاستثمارات لقطاع الأمن والدفاع، وهو ما انعكس بشكل كبير على وضعها الاقتصادي.

ويُضيف “بيسكا” أنه رغم نمو اقتصاد مالي بنحو 5% في الفترة من عام 2005 إلى عام 2010، إلا أنه شهد انخفاضًا خلال عام 2011 بنسبة 1,5%، وبالمثل انخفضت الإيرادات الحكومية بنسبة 30%، ومع ذلك فقد ارتفعت مخصصات ميزانية الأمن بنسبة 37%. كما تضاعف الوزن النسبي لنفقات الأمن في الميزانية العامة.

وقد خلُصت عملية تقييم الإنفاق على قطاع الأمن في مالي إلى أن الإنفاق الدفاعي يمكن أن يتراوح ما بين 9 و25% من الميزانية في المستقبل، شريطة استمرار الدعم الخارجي، وقدرة الحكومة على زيادة تحصيل الإيرادات المحلية، وإعادة توجيه الأموال من القطاعات الأخرى.

ثالثًا- الإنفاق على قطاع الأمن في النيجر خلال عام ٢٠١٤: يُشير “بيسكا” إلى أن الجريمة المنظمة والنزاعات على الأرض والماشية تسببت في تقويض استقرار الدولة. كما مثلت الأحداث في ليبيا ومالي تحديًا كبيرًا للجيش، وهو ما استدعى نشرها نحو 1200 فرد لمراقبة تداول الأسلحة، ومحاربة الإرهاب، وردع التمرد المُسلح في شمال البلاد. وتكامل ذلك مع استراتيجية الأمن والتنمية في الساحل الإفريقي التي تعمل على تعزيز قدرات الجيش وشرطة الحدود، وتقديم خدمات أخرى في قطاعات الصحة، والتعليم، والنقل، في المناطق المُعرضة لتهديدات أمنية.

وتذكر الورقة البحثية أن تقييم ومراجعة الإنفاق العام في النيجر خلص إلى أن ميزانية قطاع الأمن لم تكن واقعية، لأن الاستثمارات المطلوبة في قطاعي الأمن والدفاع تتطلب مزيدًا من الإيرادات والنفقات، سواء من خلال مزيد من الضرائب، أو المساعدات الخارجية. وتضيف أن غياب الإدارة الفعّالة للأفراد والأصول شكّل تحديًا رئيسيًّا للقوات المسلحة بالدولة، خاصة وأن الأفراد الذين يتعاملون مع المعدات العسكرية لم يكونوا مدربين تدريبًا كافيًا، ناهيك عن افتقار الإدارات المختلفة بالجيش إلى إجراءات تشغيل موحدة وثابتة.

دروس مُستفادة

انطلاقًا مما سبق، يُشير “بيسكا” إلى مجموعة من الدروس المستفادة لمراجعة وتقييم الإنفاق العام على قطاع الأمن في غرب إفريقيا، والتي تتمثل في:

أولًا- أهمية ربط التهديدات الأمنية بأولويات الإنفاق، خاصة وأن انتشار الصراعات وهشاشة بعض الدول تفرض على الحكومات إجراء مقايضة بين نفقات الأمن والتنمية.

ثانيًا- تحديد المنظمات الدولية والمانحين الغربيين أوجه الإنفاق الصحيحة، بما يُسهم في توجيه تمويلاتهم بشكل فاعل، ومواجهة التحديات والقصور التي تؤثر على الأمن والدفاع بالدول المتلقية للمعونات.

ثالثًا- مراعاة توزيع مخصصات الميزانية بين الجيش والشرطة، ومقارنتها بأهداف الأمن القومي، إذ يساعد ذلك صانعي القرار على فهم أفضل لكيفية تمويل مهام الدفاع والأمن بالدول الإفريقية، لا سيما وأن أغلبها يلجأ للقوات المسلحة لاحتواء التهديدات والمخاطر بدلًا من قوات الشرطة.

واستنادًا إلى تلك الدروس، يُشير “بيسكا” إلى أن الاتحاد الأوروبي تبنّى سياسات وبرامج ترتبط بمراجعة الإنفاق العام، وتأثيره على إصلاح الأمن، حيث دعت برامجه للسياسات الأمنية والدفاعية المشتركة لإصلاح الشرطة وأجهزة الأمن وتحسين وتنسيق السياسات بين مؤسسات الأمن والعدالة، وذلك من خلال أمرين: يتمثل أولهما في مراجعة الإنفاق العام لإصلاح قطاع الأمن، كشرط مُسبق لمزيد من التمويل المرتبط بالمساعدات الأمنية. وينصرف ثانيهما إلى أن الاتحاد يمكن أن يعتمد مع شركائه على مراجعة الإنفاق العام في القطاع الأمني كمحدد للمشاركة الدولية في تقديم الدعم للدول، على غرار تقييمات الانتعاش وبناء السلام في مراحل ما بعد الصراع.

في الختام، انتهى “بول بيسكا” في ورقته البحثية إلى أن التحديات التي تفرضها هشاشة الدول والصراعات أصبحت واقعًا ملموسًا، ومن ثم يجب على الاتحاد الأوروبي مساعدة تلك الدول في احتواء الفوضى، سواء كان ذلك يرجع إلى الالتزام الأخلاقي أو المصلحة الجيوسياسية.