: تطور المحركات الصاروخية

تطور المحركات الصاروخية

بدأت الصواريخ بشكلها الحديث (الباليستية) في الظهور منذ ثلاثينيات القرن الماضي علي يد العالم الالماني فيرنر فون براون و ذلك مع بدء توليه مسئولية برنامج الصواريخ للنظام النازي و قد وضعه هتلر علي رأس البرنامج الخاص بانتاج صاروخ قادر علي الطيران لمسافة ٢٠٠ كم و ضرب مدينة لندن من الساحل الفرنسي....و بالرغم من نجاح فون براون في تصنيع الصواريخ ال V2 الا انه بدأ الانتاج الكمي و دخلت الخدمة في عام ١٩٤٤ بعد غزو نورماندي و بالتالي لم تقدر ان تصنع الفارق في الحرب و سلّم فون براون نفسه هو و طاقم علماء الصواريخ الالمان الي الولايات المتحدة في عام ١٩٤٥....و منذ هذا التاريخ بدأت كل من الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي في تطوير محركات الصواريخ لديها ليس فقط من اجل سباق التسلّح و لكن من اجل باقي التطبيقات العلمية مثل الوصول الي الفضاء و الاجرام السماوية....و في هذا البحث سنستعرض كيف تطورت محركات الصواريخ خلال التاريخ.

شرح لكيفية عمل المحرك الصاروخي
ان المحرك الصاروخي يختلف عن المحركات الصغيرة في السيارات في نقطتين اساسيتين....الاولي هي ان محركات السيارات تعمل بالاحتراق الداخلي...اي ان الاحتراق يتم داخل غرفة احتراق تقوم بتوليد طاقة تعمل علي دفع مكابس تولّد الحركة و بالتالي تتحرك السيارة اما في الصواريخ فالاحتراق يكون خارجي و تتولّد طاقة كبيرة جدا عنه لدفع الصاروخ الي اعلي ضد الجاذبية الارضية...اما النقطة الثانية فتكمن في ان عمل الصواريخ يحتاج الي كميات كبيرة جدا من الاكسيجين ليساعد علي الاحتراق (الغير متوفر عند مستوي سطح البحر و قطعا غير متوفر في طبقات الجو العليا او الفضاء) و بالتالي فلابد من توفير الاكسيجين السائل لتلك المهمة مع اداة اشتعال لتبدأ عملية الحرق اما في الاحتراق الداخلي فانه يكفينا الاكسيجين المتاح في الهواء الطبيعي للقيام بذلك.

 
ان الضغط داخل غرفة الاحتراق هو العامل الحاسم في كفاءة المحرك و كلما زاد الضغط زادت كفاءة الاحتراق و تولدت قوة دفع اكبر للصاروخ و بالتالي فانه من المفيد جدا لزيادة الضغط داخل غرفة الاحتراق ان تزيد القدرة الحصانية لطلمبات ضخ الوقود و الاكسيجين السائل و ذلك عن طريق استخدام طلمبة تربينية و يتم ادارة تربينة تشغيل تلك الطلمبات عن طريق عمل غرفة احتراق اصغرالپري بيرنر تقوم بتوليد طاقة كبيرة جدا لادارة التربينة المسئولة عن ادارة الطلمبات و بالتالي يزيد الضغط داخل غرفة الاحتراق الرئيسية.
 
الفرق بين الطلمبات العادية و التربينية
 انواع المحركات الصاروخية
• المحرك ذو الدائرة المفتوحة  open cycle (gas generator)
• المحرك ذو الدائرة المغلقة  closed cycle engine
• المحرك ذو الدائرة المغلقة ضخ جزئي غني بالاكسيجين  partial flow combustion engine (oxygen rich)
• المحرك ذو الدائرة المغلقة ضخ جزئي غني بالوقود partial flow combustion engine (fuel rich) 
• المحرك ذو الدائرة المغلقة ضخ كامل  full flow combustion engine

سنقوم تباعا بشرح كل نوع من انواع هذه المحركات و مزاياه و المشكلات التي واجهت مصنعيه و سنعقد مقارنة بينهم علي نماذج تعمل الان او عملت في السابق لكل نوع من هذه المحركات.
المحرك ذو الدائرة المفتوحة  Open Cycle (Gas Generator)

تعمل هذه المحركات من خلال ضخ كميات محدودة من الوقود و الاكسيجين السائل الي ال pre-burner....و ذلك لعمل الاحتراق اللازم لدوران التربينة التي تشغل طلمبات ضخ الوقود و الاكسيجين السائل الي غرفة الاحتراق...اما عادم هذا الاحتراق فانه يتم توجيهه الي الخارج اي في الهواء الطلق او في الفضاء و اذا تم استعمال وقود ذو كثافة تقترب من كثافة الاكسيجين السائل مثل RP-1 فانه يمكن استعمال Pre-burner واحد كما في F-1 و  Merlinلكلا الطلمبتين اما لو كان الوقود مثل الهيدروجين السائل ذو كثافة قليلة بالنسبة للاكسيجين السائل فان الامر يحتاج لاثنين Pre-burner واحد لكل طلمبة كما فيJ-2  نظرا لختلاف الضغوط المطلوب توليدها.... و نظرا للحرارة الكبيرة التي تتولد من عملية الاحتراق داخل Pre-burner و هو ما قد يجعل اجزاء المحرك تحترق و تذوب فانه يتم ضخ كمية كبيرة من الوقود السائل الي ال Pre-burnerحتي يعمل كمبرد و ذلك من خلال جدار غرفة الاحتراق الرئيسية حتي تبردها هي الاخري ولا تذوب كالشمع و نظرا لان اغلب محركات هذا النوع تعمل بوقود RP-1  فانك ستجد كميات كبيرة من الدخان الاسود تخرج من فتحة عادم ال Pre-burner اشبه بحرق الفحم و تسمي تلك الظاهرة بظاهرة التفحمCoking Problem و ذلك لان لوجود عدد كبير من ذرات الكربون بجزئ الكيروسين و هو المكون الاساسي لوقود RP-1 و مع ضخ كميات كبيرة من الوقود فان عملية احتراق غير كاملة تحدث و هو ما يؤدي الي خروج الادخنة السوداء و تلك النوعية من المحركات هي التي كانت تستعمل في الولايات المتحدة منذ نشأة برنامجها لغزو الفضاء و حتي منتصف التسعينات.
 
المحركات ذات الدائرة المغلقة  Closed Cycle Engine
مع توافر الارادة السياسية داخل الاتحاد السوفيتي للوصول للقمر قبل الولايات المتحدة و نظرا لعدم توافر امكانية انتاج محرك صاروخي ضخم مثل ال F-1 فلجأ السوفييت لصناعة محركات اصغر حجما و بكفاءة اعلي من مثيلاتها من نفس الحجم و عليه سعي كبير مصممي الصواريخ الروسي سيرجي كارليوف و المهندسون من شركة كوزنيتسوف لتصنيع المحركات النفاثة الي تصميم محرك بدائرة مغلقة اي انهم سوف يقوموا بتوجيه عادم الPre-burner الي غرفة الاحتراق الرئيسية بهدف رفع الضغط بداخلها و بالتالي زيادة كفاءة الحرق و كفاءة المحرك بشكل عام و كذلك استخدام Pre-burner واحد لكل من طلمبتي الوقود و الاكسيجين السائل نظرا لتقارب كثافة السائلين...و بالرغم من ثورية هذا التطوير الا ان المشروع واجه عدة عقبات كان اهمها الوفاة المفاجأة لسيرجي كارليوف و هو المصمم و المسئول عن كل شئ يخص تصنيع هذه الصواريخ و كذلك اجبار الرئيس نيكيتا خروتشوف علي الاستقالة و هو عنصر الضغط السياسي علي المشروع كل هذا بالاضافة الي ضعف الامكانيات لدي الاتحاد السوفييتي و تكرار تجارب الاطلاق الفاشلة للصاروخ N-1بمحركه الثوري  NK-33...كل هذا ادي في النهاية الي ايقاف العمل بالمشروع عام ١٩٧٤.

في بداية التسعينات من القرن العشرين و بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قامت شركة كوزنيتسوف بالاتصال بشركة ايرو چيت الامريكية و ذلك لتطلب منها ان تري و تختبر و تشتري محرك صاروخي ثوري جديد و هو القديم اصلا لديهم الNK-33....كان الروس قد نجحوا في اكتشاف سبيكة معدنية يمكنها تحمل درجة الحرارة العالية للحرق بالكميات المناسبة من الوقود و الاكسيجين السائل داخل ال Pre-burner بدلا من ضخ كميات ضخمة من الوقود الي ال Pre-burner و بالتالي يحدث احتراق غير كامل و تفحم و ينتج عنه انسداد لكل عناصر المنظومة التي تعمل داخل المحرك....و قد نجح الروس فعليا في اجتياز تلك العقبة بهذه السبيكة و لكن هذا المحرك لم يثبت نفسه في اطلاق فعلي حقيقي....و قد خضع هذا المحرك لاختبارات اطلاق علي منصة اختبار في الولايات المتحدة في عام 1995 و قد نجح اختباره و اثبت فاعلية النظام الروسي الجديد.
 
المحرك ذو الدائرة المغلقة )غني بالاكسيجين(  Partial Flow Combustion Engine (Oxygen Rich)
بعد نجاح الروس في تصميم محرك صاروخي يعمل بنظام الدائرة المغلقة اتجهوا للنقلة النوعية الثانية في هذا المجال....الا و هي الاستفادة من قدرة الاكسيجين السائل علي تبريد المحرك و قاموا بضخ كامل الاكسيجين من خلال ال Pre-burner و توجيه العادم الغني بالاكسيجين الي غرفة الاحتراق الرئيسية....و بهذا تتحقق الاستفادة من نقطتين الاولي و التي ذكرناها و هي استخدام الاكسيجين السائل في عملية التبريد للمحرك و الثانية و هي رفع كفاءة المحرك عن طريق زيادة الضغط داخل غرفة الاحتراق و ذلك بضخ كامل الاكسيجين السائل الي غرفة الاحتراق من خلال ال Pre-burner....و لعل التحدي الاكبر في تصنيع هذا المحرك كان في كيفية ايجاد سبيكة معدنية تستطيع ان تستوعب هذا الكم الهائل من الضغط و الحرارة حيث ان اي خلل في ذلك المعدن سيؤدي بدوره لتسريب الاكسيجين من ال Pre-burner و هو امر يؤدي الي كارثة حيث سيحدث انفجار رهيب و تدمير المحرك و الصاروخ تماما.

و قد نجح الروس في تنفيذ ذلك المحرك و عرف باسم RD-180 و الذي بدوره اطلق الصاروخ الامريكي Atlas-5 و كان اول اطلاق في مايو ٢٠٠٥....ليصبح اول صاروخ امريكي يطلق بواسطة محرك روسي في التاريخ.
 
المحرك ذو الدائرة المغلقة )غني بالوقود)   Partial Flow Combustion Engine (Fuel Rich)
لم يتقبل الامريكيين فكرة ان يكون للروس السبق في تطوير محركات الصواريخ و لذلك فقد استحدثوا نظام عمل محرك جديد يعمل علي ضخ كامل الوقود الي الPre-burner و توجيه العادم الغني بالوقود الي غرفة الاحتراق الرئيسية و هو هنا يسعي للاستفادة بنقطتين الاولي و هي استخدام الوقود كمبرد لاجزاء المحرك و هي نفس التقنية القديمة في محركات الدائرة المفتوحة و النقطة الثانية هي ارتفاع الضغط الناتج عن توجيه العادم الغني بالوقود الي غرفةالاحتراق الرئيسية و بالتالي زيادة كفاءة الاحتراق....و لكن كان السؤال الاهم و التحدي الاصعب هو كيفية تفادي مشكلة الاحتراق الغير كامل الناتجة عن ضخ كل الوقود من خلال ال Pre-burner و بالتالي ظهور مشكلة التفحم Coking Problemو انسداد كل مواسير و انظمة عمل المحرك بذرات الكربون.

كان الجواب علي هذه المعضلة هو الهيدروجين السائل و ذلك لسببين....اولهما و اهمهما هو انه في حالة الاحتراق غير الكامل للهيدروجين فان ذرات الهيدروجين لن تسبب مشاكل لنظام عمل المحرك كما كان سيحدث لو استخدمنا وقود بترولي (المثقل بذرات الكربون)مثل ال RP-1 اما السبب الثاني فانه ببساطة ان الهيدروجين السائل ذو درجة حرارة منخفضة جدا و هو ما يعني نظام تبريد اقوي و افضل لاجزاء المحرك.
نظرا للاختلاف الكبير بين كثافة الهيدروجين السائل و الاكسيجين السائل فانه تم عمل تربينة مختلفة لطلمبة كل منهما نظرا لاختلاف القوة الحصانية المطلوبة لضخ كل منهما و حيث ان الهيدروجين المسال اقل كثيرا في الكثافة من الاكسيجين المسال فانه يحتاج الي طلمبة اكبر كثيرا من تلك المستخدمة للاكسيجين.

و لقد استحدث الامريكيين نظام لعزل الهيدروجين السائل داخل الPre-burner الخاص بطلمبة الاكسيجين السائل باستخدام طبقة رقيقة من الهيليوم السائل (غاز خامل) نظرا لانه اذا حدث اي تسريب للهيدروجين المسال مع وجود الاكسيجين المسال فان هذا سيؤدي الي انفجار المحرك كله.
و قد صمم الامريكيين بناءا علي هذه النظرية المحرك الخاص بالمكوك الفضائي و هو ما سمي ب RS-25
 
 

المحرك ذو الدائرة المغلقة ضخ كلي  Full Flow Combustion Engine
تقوم نظرية هذا المحرك علي الجمع بين فائدة استخدام Pre-burner غني بالاكسيجين لتشغيل تربينة طلمبة ضخ الاكسيجين و Pre-burner غني بالوقود لتشغيل تربينة طلمبة ضخ الوقود و يتم توجيه العادمين الي غرفة الاحتراق لضمان الوصول الي اعلي ضغط داخل غرفة الاحتراق و بالتالي اعلي كفاءة احتراق....و فعليا حتي الان لم يتم تجربته في اطلاق فعلي، فقط علي منصات الاختبار و لعل الاكثر جاهزية الان والاقرب احتمالا لتجربته في اطلاق فعلي هو المحرك Raptor الذي تصممه و تنفذه شركة Space-X و قد نجح علماء المواد Metalorgyبالشركة في تصنيع سبيكة قادرة علي تحمل ضغط ١٢٠٠٠ رطل/بوصة مربعة او ٨٠٠ بار و ذلك بناءاً علي تغريدة مؤسس الشركة و رئيسها التنفيذي و كبير مصمميها ايلون ماسك....و ستكون مهمة هذا المحرك هي اطلاق الصاروخ Star Hopper من اجل الوصول الي المريخ....و نظرا الي ان هذا المحرك سيعاد شحنه بالاكسيجين السائل و الوقود علي سطح المريخ من اجل اطلاق العودة الي الارض فتم اختيار الميثان المسال (به ذرة كربون واحدة و بالتالي لن تحدث مشكلة التفحم) ليكون هو وقود هذا الصاروخ نظرا لسهولة تصنيعه نسبيا علي كوكب المريخ و انخفاض تكلفته و سهولة نقله و تخزينه مقارنة بانعدام القدرة علي تصنيع RP-1 علي المريخ او ارتفاع كلفة و صعوبة تخزين الهيدروجين المسال.