العراق: عودة ظهور البغدادي.. الدلالات والرسائل

كتبت : صافيناز محمد أحمد *

فى التاسع والعشرين من أبريل 2019، ظهر أبو بكر البغدادى زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) عبر فيديو صادر عن شبكة "الفرقان" التى تمثلإحدى الأذرع الإعلامية للتنظيم. ويثعد هذا هو الظهور العلنى الثانى له منذ إعلانه دولة الخلافة فى يوليو عام 2014 بالجامع النورى بمدينة الموصل العراقية، حيث كان يعتمد التسجيلات الصوتية بديلا عن الظهور العلنى. هذا الظهور المفاجئ للبغدادى فى هذا التوقيت يعكس العديد من الدلالات والرسائل؛ لاسيما بعد أن سيطرت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" على آخر معاقل التنظيم فى مدينة الباغوز بمحافظة دير الزور شمال شرق سوريا فى مارس 2019، والتى بمقتضاها تم الإعلان عن انتهاء التنظيم وانتهاء دولته!!

الدلالة الأولى، تشيرإلى التوقيت؛ ذلك أن الفيديو المسجل تضمن الإشارة إلى معركة الباغوز وهزائم التنظيم فى سوريا. كما تعرض بصورة عابرة للأحداث الجارية فى ليبيا، والأحداث فى الجزائر والسودان. وتحدث عن تفجيرات زلفى فى المملكة العربية السعودية، وتحدث كذلك عن التفجيرات التى شهدتها سريلانكا فى الحادى والعشرين من أبريل 2019، والتى اعتبرها البغدادى ثأرا لهزيمة التنظيم فى معركة الباغوز، وهو ما يشير إلى حداثة تاريخ التسجيل وإلى كون البغدادى متابعا لما يجرى من أحداث في مختلف الأقاليم. ويعني ذلك أن التنظيم لايزال له نشاطه وعملياته وضرباته الموجعة ليس فى المشرق العربى فقط، وإنما فى أى منطقة من العالم، وعدم حصرها فى منطقة جغرافية واحدة أو محددة مستقبلا. ويدعم هذا الاستنتاج الهيئة التى ظهر عليها البغدادى -خلافا لمظهره العلنى الأول- والتى تبدو أقرب إلى هيئة مقاتلى التنظيم من حيث الملابس والسلاح.

الدلالة الثانية، تشير إلى حرص البغدادى إظهار استمرار بقاء التنظيم بالرغم من هزيمته التى تمت بالفعل على الأرض فى كل من سوريا والعراق بصورة تكاد تكون كاملة بعد معركة الباغوز فى مارس الماضى؛ أى انهيار وزوال دولة التنظيم بملامحها العسكرية والاجتماعية والإدارية التى شهدتها المناطق الخاضعة له فى الدولتين. لكن هذا لا يعنى هزيمة التنظيم فيما يتعلق بأنشطته وأهدافه ونسقه الفكرى، بما يشير إلى استمرار عملياته بغض النظر عن وجود مقر له على الأرض من عدمه. بمعنى آخر، حرص التنظيم على إعادة تشكيل صورته بعد انكساراته العسكرية على اعتبار ما ذكر البغدادى بأن معركة الباغوز ليست نهاية المواجهة بين التنظيم وخصومه، وأن التنظيم يعتمد حاليا حرب استنزاف كآلية لعملياته.

وترتبط هذه الدلالة أيضا برغبة البغدادى تحفيز وتقديم الدعم المعنوى لما تبقى من مقاتلين فى التنظيم بعد الهزائم الكبيرة التى تعرض لها، وإلى خلاياه النائمة أيضا فى العديد من الدول. وذلك عبر الظهور بمظهر الزعيم المسيطر على ما تبقى من التنظيم  والذى يناقش مع أتباعه ملفات "الولايات الخارجية"!!. فضلا عن أن غيابه عن الظهور لمدة طويلة –ووفقا لمحللين- قد ينقض بيعة عناصر التنظيم له، الذين أصبحوا مجرد مجموعات صغيرة ومشتتة فى الحزام الصحرواى فى منطقة الحدود العراقية- السورية، هذا بخلاف حاجة التنظيم حاليا إلى عناصر جديدة بعد الخسائر البشرية الكبيرة التى مُنى بها، وهذا لا يتأتى إلا بعودة ظهوره مرة أخرى. فضلا عن أنباء تقول بأن التنظيم يعانى من انشقاقات فيما تبقى من تشكيلاته وتمرد على زعامة البغدادى وفقا لشهادات الدواعش الذين تم اعتقالهم أو هؤلاء الذين قاموا بتسليم أنفسهم لمقاتلى قوات سوريا الديمقراطية وتحديدا فى معركة الباغوز.

الدلالة الثالثة، تتعلق بحجم النفوذ الذى يحظى به التنظيم لدى بعض العشائر من السكان المحليين فى العراق وسوريا، فبعض المحللين يرجحون أن المقاتلين الجالسين حول البغدادى فى الفيلم المسجل، ووفقا لملابسهم، ربما يكونوا من العشائر المحلية المتواجدة فى المنطقة ما بين غرب العراق وشرق سوريا، وهذا يعنى أن المرحلة المقبلة من عمر التنظيم تحتاج إلى "إعادة" توطيد لعلاقات قوية –وفقا لمحللين– بين التنظيم وبين هذه العشائر لاحتضان ما تبقى من عناصره، وتقديم المأوى والدعم لهم. وتجدر الإشارة هنا وفقا لهذا الرأى أن ثمة مناطق أخرى فى ليبيا وأفغانستان على سبيل المثال تتوافر فيها حواضن محلية ملائمة للتنظيم.

الدلالة الرابعة، تشير إلى أن الظهور المفاجئ للبغدادى يعتبره البعض نهاية مرحلة فى عمر التنظيم وبداية مرحلة أخرى ستكون أشد فى ضرباتها فى أنحاء مختلفة من العالم، ولن تكون قاصرة على العواصم الغربية فقط (تفجيرات سريلانكا على سبيل المثال). وأنصار هذا الرأى يدللون بأن خسارة التنظيم لدولته بشكلها الاجتماعى والإدارى والأمنى فى المناطق التى كان يسيطر عليها فى سوريا والعراق قد أزالت عنه عبئا كبيرا؛ أى أصبح أكثر تحررا من مهمة إدارة "دولة الخلافة المنهارة"، وبالتالى سيكون قادة التنظيم متفرغين لإدارة عمليات خارج هذا النطاق الجغرافى.

الدلالة الخامسة، تشير إلى الرسالة التى أراد البغدادى بعثها عبر إطلاعه على ما يُسمى بـ"ملف الولايات"، والتى مؤداها أن التنظيم مستمر ويتمدد أيضا فى العديد من الدول؛ أى أن التنظيم -ووفقا لمحللين - أصبح منتشرا إقليميا وعالميا. كما تجدر الإشارة هنا إلى ملف "ولاية تركيا" تحديدا، وهذا يعنى أن البغدادى يرسل برسالة تهديد ضمنية للسلطة فى تركيا؛ مستهدفا دفع أنقرة لفتح الطريق على الحدود المتاخمة لها مع كل من العراق وسوريا أمام عناصره ومقاتليه وتقديم الدعم لهم. وبغض النظر عن جدلية ارتباط تركيا بالتنظيمات المتطرفة من عناصر المعارضة السورية، تجدر الإشارة هنا إلى أن تركيا قد سمحت باستخدام التحالف الدولى لقاعدة إنجليريك فى ضرب معاقل التنظيم فى سوريا، حيث توظف تركيا علاقتها بتلك التنظيمات عبر حسابات توازنات المصالح بينها وبين غيرها من القوى الإقليمية من ناحية، والقوى الدولية من ناحية ثانية.

الدلالة السادسة، تتصل بتعليق البغدادى على أحداث الحراك الشعبى فى دولتين عربيتين فى أفريقيا وهما الجزائر والسودان، وإشارته إلى غياب أهداف واضحة لهذا الحراك. فى سياق ذلك يرى بعض المحللين أن التنظيم ربما يراهن على حالة من الفوضى تسود الدولتين بما يجعل منهما فرصة ملائمة لنشاط عناصره هناك. كما يشير البعض الآخر إلى وجود فروع جديدة للتنظيم فى أفريقيا ستكون لها مهامها خلال المرحلة المقبلة، لاسيما فى منطقة الساحل والصحراء. وهو ما يدلل على أن التنظيم لايزال قادرا على الانتشار والتوسع على النطاق الجغرافى والإقليمى.

من السياق السابق يمكن القول إن الظهور الثانى للبغدادى فى هذا التوقيت يبعث برسائل للمجتمع الدولى ككل؛ مضمونها أن مرحلة جديدة من نشاط التنظيم قد بدأت، وهى مرحلة لا تعتمد على التموضع الجغرافى، ولا على بناء دولة خلافة جديدة بمضمونها الاقتصادى والاجتماعى والإدارى، وإنما هى مرحلة يستنزف فيها التنظيم قدرات الدول التى ستكون فى مرمى عملياته خلال المرحلة القادمة على المستويين الدولى والإقليمى. وهو ما يعنى أن التنظيم المهزوم لايزال يشكل مصدر تهديد فعلى على الرغم من انهيار دولته فى المشرق العربى.